المرأة الفلاحة: “من البذرة إلى عصيدة الزقوقو طريق مشحون بالمخاطر”
نوافذ
17 أكتوبر، 2021
وطني
839 زيارة
ككل عام، تعيش تونس احتفالات المولد النبوي الشريف بطريقة خاصة تختلف عن سائر البلدان العربية. يُمارس المواطنون طقوساً توارثوها عن أجدادهم، ومن أشهرها طبخُ بذور الصنوبر الحلبي أو ما يُسمى باللهجة التونسية الزقوقو. إلاّ أنّ هذه السنة، تزامنت الاحتفالات مع موجة غلاء غير مسبوقة للمواد الاستهلاكية، ومنها مادة (الزقوقو) الصنوبر الحلبي، في حين يرى سكان المناطق الجبلية في محافظات (القصرين والكاف وجندوبة وسليانة) أنّهم يمضون أوقات طويلة في جني هذه المادة للحصول على بضع الملّيمات لإعالة عائلاتهم، ناهيك عن المخاطر الأمنية والتهديدات الإرهابية في الجبال.
مشقة جمع مخاريط الصنوبر الحلبي:
“أمضيت سنوات من عمري و أنا أجني مخاريط أشجار الصنوبر الحلبي فهي مورد رزقي الوحيد”، هكذا حدثتنا الخالة “عائشة الدبابي” ابنة ربوع “سمامة”، وتحديداً منطقة الدولاب التابعة لمعتمدية سبيطلة من محافظة (القصرين)، عن يومياتها مع هذه المهنة المحفوفة بالمخاطر بسبب تحوّل مرتفعات الجهة إلى وكرٍ للمجموعات الإرهابية، التي زرعت أراضيها ألغاماً.
مع انطلاق موسم جني “الزقوقو” الذي عادة ما يبدأ في أواخر شهر نوفمبر تشرين الثاني، وينتهي في شهر أبريل، تعد الخالة عائشة الدبابي (60 عاماً)، عدّتها من أكياس بلاستيكية والقليل من الرغيف وقارورة ماء ملأتها من صهريج صغير، تملأه كل 15 يوما مقابل 20 ديناراً، وتتجه نحو الجبل، في ساعات مبكرة من كل يوم.
كانت تسير بخطى متثاقلة، مستعينةً بعكاز صنعته من قضيب حديدي، تضع كيساً على ظهرها، متجهة صوب الجبل، ” أمضي ساعات طويلة من اليوم، وأنا أتجوّل بين الأشجار، لجمع أكثر ما يمكن من مخاريط الصنوبر الحلبي، فكلّما كانت الكمية أكبر كان منتوج الزقوقو أكثر.”
تواصل محدثتنا كلامها عن معاناتها اليومية: ” أجد صعوبة كبيرة في تسلّق الأشجار، للوصول إلى حبات الصنوبر، التي تنبت في القمة وهي عملية شائكة، ومخاطر السقوط واردة، في تلك المحاولات التي لا تقدر عليها مسنة مثلي بل هي مهمة الشباب وأصحاب الصحة الممتازة، هي مهنة الرجال بالأساس ها إنّنا نحن النساء نمتهنها اليوم مجبرين”.
وتتابع المرأة كلامها بصوت منخفض ومرتعش، ” موسم جني ثمار الصنوبر يتزامن مع فصل الشتاء، لذلك نجد صعوبة كبيرة في تجميعها، ففي كثيرٍ من الأحيان لا أستطيع أن أقطف المخاريط،بسبب برودة الطقس.”
المغامرة مقابل العيش:
لم تعر الخالة عائشة وغيرها من سكان المناطق الريفية المحاذية للجبال، اهتماماً لأوامر وزارة الدفاع، التي حجّرت دخول المواطنين إلى الجبال بعد إعلانها مناطق عسكرية مغلقة بسبب زرع الإرهابيين للألغام داخل الجبال التي اتخذوها وكراً وملاذاً، فشعاب الجبال قوت أهل الريف يقتاتون من إكليلها وأعشابها وكذلك ممّا تجود به أشجار الصنوبر.
” نحن نجازف بحياتنا مقابل لقمة العيش، ففي كل يوم أتوجه وزوجتي إلى الجبال غير عابئين بالتهديدات الإرهابية والألغام ، وتحذيرات حراس الغابات الذين يترصدوننا في أحيان كثيرة ويفتكون ما نجنيه طيلة يوم كامل، ويسلطون علينا خطايا مالية مجحفة”، بلهجة حادة وبنقمة يحدثنا “الهادي الذوادي” كهل يبلغ من العمر 54 سنة أصيل منطقة زاوية بن عمار المحاذية لجبل سمامة، عن المخاطر التي تعترض سالكي دروب الموت من أجل لقمة العيش.
ويتابع الهادي ذوادي، عامل يومي ورب أسرة متكوّنة من زوجة وأربعة أطفال، “الظروف الاجتماعية القاسية، والبطالة أجبرتني على اقتياد عائلتي إلى الموت، بالزج بها في متاهة الألغام والملاحقات العدلية عند الإمساك بنا.”
ويواصل الهادي حديثه، ” ليس لنا خيار آخر غير الجبال، عشرات النسوة يسلكن يومياً طرقات محفوفة بالمخاطر، ليعدن بعد يوم متعبٍ بأكياسٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، لتبدأ رحلة أخرى مع ألسنة النيران.”
“أتذكر جيداً حادثة الشاب الثلاثيني، الذي انفجر عليه لغم تحت جبل سمامة بينما كان يجمع مادة الزقوقو، أصيب على مستوى الساق، وهو متزوج وأب لخمسة أطفال، كان يجمع الزقوقو لإعالة أبنائه” يواصل العم هادي حديثه عن المعاناة سكان المناطق الريفية التي تعيش بين لهيب الفقر ولهيب الإرهاب.
“نكتوي بالنار لنستخرج الزقوقو”:
مع اقتراب المولد النبوي الشريف، يقبل الكثير من التونسيين على اقتناء الصنوبر الحلبي، لإعداد “عصيدة الزقوقو”، إلاّ أنّهم يجهلون المراحل التي مرّت بها هذه الثمرة، والمشقّة التي تكبّدها العشرات من النسوة للحصول عليها.
تقول الخالة عائشة: ” نعود بعد ساعات من جني ثمار الصنوبر الحلبي لتبدأ رحلة شاقة لاستخراج حبوب الزقوقو”، مضيفةً ” أسكب كميات من المخاريط في الفرن، وأتركها لساعات حتى تستوي ثم أخرجها، أقوم بدهسها بالعصى حتى تخرج حبوب الزقوقو”، متابعةً القول: ” أثناء تقليب المخاريط في النار لتتفتح، تتعرّض أيدينا إلى حروق بألسنة اللهب، إضافةً إلى الجروح أثناء إزالة العوالق من الأوساخ والأتربة، قبل أن نجهزها ونبيعها للتجار بأسعار تتراوح بين 10 دنانير و 15 ديناراً، دنانير نُعيل بها أطفالنا ونشتري بها حاجاتنا الضرورية أمام غلاء الأسعار.”
بشيءٍ من الحسرة تقول عائشة، ” نحن نجمّع مادة الزقوقو لكننا لا نطهو العصيدة في المولد النبوي الشريف، نحن نعدّ العصائد المحلية “العربي” تُصنع من طحين أو دقيق، نُضيف عليها القليل من زيت الزيتون، أو الزبدة، وقليلاً من السكر.”
تواجه العشرات من العائلات التي تقتات من جمع الزقوقو، العديد من المخاطر التي تهدّد حياتهم مقابل الحصول على بضع المليمات، يعتبرونها غير كافية لتغطية حاجياتهم اليومية، مقابل المبالغ الطائلة التي تدرها سكان المناطق الجبلية على الدولة، خاصة وأنّ سعر الكيلوغرام وصل إلى حوالي الثلاثين ديناراً.
ثريا القاسمي